Wednesday, June 5, 2024

 

إلى أين؟

 

(.. وجوه متوترة يصفدها الزمن ..

محولة عن التحول بالتحول ..

مملوءة بالأوهام .. والمعاني الخواء ..

يتضخم فيها ورم اللا مبالاة .. والتركيز المفقود ..

والرياح الباردة تعصف بالبشر والأوراق الجافة ..

تلك الرياح التي تهب قبل الزمان وبعده ..)

يقال في الأدب العرفاني إن (الموجودات كلمات) .. فالحجر قصة .. والشجر عبارة لأهل المعرفة الذين يجيدون أصول القراءة ولكن ... عندما تتحول الأرض الطيبة بنيلها ونخيلها .. بشمسها .. في شروقها وأصيلها إلى بقعة بور عاطلة عن الحياة .. وإلى كتاب أمِّي أصم ، عندها  تتساوي قراءة الأحياء والجمادات وتصبح اللوحة غبراء شائهة كما وصفها ت.س. اليوت أعلاه . تلك هي (المؤامرة الوطنية) التي يؤديها الأبناء بجدارة فيتحول الفرد البسيط إلى (لا منتمي) يتحلل من كل الروابط المقدسة .. فيفقد انتماءه الأسري بالغياب القسري .. ورباطه الاجتماعي بالغربة الذاتية .. وأذليته الوطنية بالهجرة النفسية فما دهانا وإلى أين نمضي؟ الشكوى ليك يا ربنا ..

في لحظات العتمة وتداخل الإجابة بالسؤال واختلاط الشك باليقين يمكن أن نطرح هذا التساؤل ببراءة ساذجة .. ولكن عندما نعلم أننا في عصر علم الإدارة وسيكلوجيا الفرد وسوسيولجا المجتمع يصبح الأمر أكثر إيلاماً وأقسى احتمالا .. لقد قطعت الأمم مشواراً طويلاً في مسار التاريخ .. قامت بتأهيل الفرد نفساً وخلقاً ليكون صالحاً لنفسه ولمجتمعه بالتربية والتعليم والحرية .. وأقرت النظام بالدساتير والديمقراطية .. وبنت جسور العلاقة بين الأفراد بالثقة والاحترام والاعتراف المتبادل .. ليتحول الإنسان إلى استثمار وطني إنساني .. ويتحول الوطن إلى أم رءوم تتعهد أبناءها بالحماية والرعاية .

يقول الدكتور هاشم صالح في رحلته التنويرية العظيمة إن الأمم تموت إذا

 تعبت من العطاء الحضاري .. أو استسلمت للأمجاد .. أو وثقت بالزمان أكثر مما ينبغي وأسرفت في الترف والطمأنينة والأمان .. ولكننا في السودان نموت من الفقر الحضاري .. ونصور للمجد صوراً هزيلة .. ولا نضع للتاريخ قيمة ولا للزمن اعتبارا .. كأننا في جزيرة معزولة .. نعبد الأصنام ونستقسم بالأزلام .. ونقوم بوأد البنات .. ولنا أيامنا كيوم بعاث ويوم أرماث وداحس والغبراء .. تحركنا الجاهلية والقبلية والجهوية والعنصرية .. وفي كل يوم ترذلون ..

إن الإنسان ليصاب بفصام عقلي وعاهة فكرية ويصبح أخرساً وأبكماً عندما يعود في هذه اللحظة من التاريخ المتقدم ليرى وطنه بلداً يعيش في عصور ما قبل الميلاد .. يعاني من الملاريا والدسنتاريا .. يعلو الغبار أركانه .. يبحث إنسانه عن الرغيف والكينين .. ينزوي طلباً للأمان .. وتتضاءل كرامته فيفقد الستر واليقين .. وأكثر من ذلك تجد أناساً يرقصون طرباً ولا يعلمون أنهم يؤدون رقصة الموت الأخيرة على موال حزين ..

إن من يحب ربه ودينه ينبغي أن يحب وطنه .. ومن يحب وطنه يجب أن يحب مواطنيه .. ولتكن إنساناً عليك أن تعرف معنى الإنسانية .. فلا خير في نعيم يتمدد حولك ويقف دون آخريك .. إذ لا معنى ولا طعم لثيابك الفاخرة وحولك العراة .. ولا فائدة لسيارتك الفارهة وجوارك الحفاة .. ولا حتى للعافية إذا كان من معك يفتقد ثمن الدواء . تلك قيم صارت أساطير تحكى كالخل الوفي والغول والعنقاء .. هكذا سادت عندنا (فلسفة القوة) وصار (الإنسان الأعلى) هو القوي .. الجبار .. الظالم .. السيد .. وصار جل الشعب أرقاء وأسرى للحاجة يتكففون عاديات القدر والمصير ..

كلنا في هذا العقوق سواء وعلى هذه الخيانة ملامون .. وما هذا الكتاب إلا إقرار بالخيبة والعجز والفشل .. ولكننا نكتب فقط لننسى .. ونصلى لنتذكر .. وندعو بحزن للذين لا يستطيعون الصلاة ..

 عندما تساءل الراحل الطيب صالح من أين أتى هؤلاء؟ لم يكن يجهل .. بل كان سؤاله استنكارياً ولم يكن سؤالاً استفهامياً .. مثله مثل صديقه أبوالطيب المتنبي في صحاري نجد وهو يقول نحن أدرى إذ سألنا بنجدٍ أطويل سفرنا أم يطول .. فبعض السؤال اشتياق وكثير من رده تعليل .. لم يكن السؤال عن السفر وهو يعلم بعد المسافة .. ولكنه الشوق والإلحاح واللهفة .

من أين أتى هؤلاء؟ بالتأكيد لم يهبطوا من المريخ بل جاءوا من رحم هذا المجتمع .. من عمقه الفكري ومخاضه الاجتماعي وعبر تاريخ طويل وتموجات لقيم صعدت وأخرى هبطت .. وكانت النتيجة استجابة حقيقة لكيفما تكونوا يولى عليكم .. ولكن ما الذي يصنع الدكتاتورية؟ و ما الذي يجعل الأيديولوجي أو الدكتاتور يعتقد أنه على صواب؟

في كتاب "ما وراء الخير والشر"  يقول نيتشه ( لا تفكر في هل ما يقوله الفيلسوف صحيحاً أم خطأ ، ولكن أسأل كيف ظنَّ أنه صحيح) لأن ذلك يجعلنا أقرب لمعرفة تاريخ الفكرة والمناخ الذي أفرزها والظلال التي كانت السبب في تكوينها .. وبامتلاك ماضي الفكرة يمكن قراءة انعكاسها على الواقع وتأثيرها على بناء المستقبل .. كما يساعد ذلك كله حتى في معرفة ما لم يفكر فيه صاحب الفكرة ..

في علم السياسة ونظريات الاستبداد تعرَّف الأيديولجيا بأنها فكرة ذات اتجاه واحد ، مغرورة بذاتها ، تفترض الصواب المطلق وهي في استغناء تام عن ما سواها وتتجاهل حتى هامش الخطأ الموجود في النظريات العلمية .. من هنا تولد الدكتاتورية .. قطار يمضى بكبرياء أجوف في اتجاه خاطئ .. ومن هنا تأتي أهمية المعارضة في النظم الديمقراطية كرقيب لضبط الآداء الحكومي وشريك أساسي للتصحيح وتوسيع دائرة المشاركة ..

بعد حرب النكسة في 1967م انطلقت الحركة الإسلامية بقوة نتيجة للإحباط الكبير الذي ساد بعد الهزيمة ولتقاعس الحركات اليسارية وتفتت القومية

 العربية .. انطلقت الحركة الإسلامية تحت شعار "الإسلام هو الحل" ووجدت قبولاً هائلاً لتجذر العاطفة الدينية في المجتمعات العربية ، ولكن البناء النظري للحركة الإسلامية كان يتجاهل التطور الهائل الذي حدث في حركة المجتمعات وتعقيداتها وتقارب أطراف العالم وسيادة قيم الدستورية والديمقراطية وحقوق الإنسان .. هذا ما أدركته الحركة الإسلامية في مصر إلى درجة كبيرة مما جعلها تغير من جلبابها وتحاول الاحتماء بالوسطية والمشاركة الجماعية في الوقت الذي ما تزال فيه الجماعة في السودان تمضي في ذات الاتجاه دون مراجعة للمنهج أو محاسبة للذات ..

سئل الدكتور غازي صلاح الدين في تلفزيون السودان عن تقييمه لمسار الحركة الإسلامية فأجاب بأنه إذا كان هناك من بعث للحركة يجب أن يكون ذلك في إطار وطني .. نعم إن السيد غازي ينعي المشروع الحضاري للحركة الإسلامية ولئن تأتي أخيراً خيراً من أن لا تأتي ..

نقول هذا الكلام ليقيننا بأنه إذا فاتنا إدراك ما مضى .. فعلينا تدارك ما يأتي ..

أوتار السامــبا .. ..

(البرازيل : طيور الكناري أم طائر الفينيق الأسطوري)

 

الإبداع فكرة .. والفكرة إبداع ..

والإبداع والفكرة جمال .. والجمال برازيلي اللون والطعم والنكهة ..

قالها هيجل فيلسوف الفينومينولجيا والروح قبل قرون "الجمال هو التجلي الحسي للأفكار" .. نعم هكذا أكدها فيلسوف الكرة البرازيلية الدكتور سقراط فتجلى العقل والفن جمال ورحيق مسكوب ..

فهل أدركت سر العلاقة بين هيجل والفكرة وسقراط والإبداع والفلسفة والجمال ..؟

هكذا يؤكدها اليوم نيمار .. والجمال سليل الجمال ..

 

البرازيل إيقاع سماوي ..

لحن يحلق بأجنحة من غمام في سماء لازوردية ..

ليس غريباً أن تفوز البرازيل في عالم الكرة فالبطولات والتاريخ والأرقام القياسية ماركة برازيلية .. وليس غريباً أن ترسم على ماركانا لوحات سريالية تكعيبية دادائية .. ذلك أمر مألف وسمة فطرية يعرفها سحرة الأمازون ، لكن قيل في ألواح موسى الكاذبة وصحف الآخرين أن شمس الكرة البرازيلية قد غربت ولن تعرف الشروق وأن الكرة الأوروبية المبرمجة بالإلكترون لن يعد هناك من يباريها من الأفلاك ..

 

قالها صديقي الامبريالي النازي الهتلري عمر الفاروق في لهجة إطلاقية (تاني لا إنتي يا راقصة التانغو لا إنتي يا اسباجيتي الأمل البعيد وسامبا الارجوان البنفسج .. الألمان هم الألمان منذ الحرب العالمية وهتلر مروراً بالفلوكسواجن والمرسيدس وقوفاً عند أوزويل واشتفشتايجر)

هكذا قيل ..

 

لكن لابد بعد الشفق من الغسق .. والشمس لا تخلف الميعاد ..

فعادت طيور الكناري كطائر الفينيق الذي لا يعرف الموت فينبعث من الرماد .. عادت طيور الكناري تشقشق على سواحل ساوباولو وعلى ضفاف نهر الأمازون وشرفات الريو فغنى العالم في أركانه الأربعة مع فينغابويز "برازيل .. برازيل" .. فعفواً وحظاً أوفر للممتنعين عن التصفيق ..

 

نعم سادتي ..

البرازيل ليست الدولة بديمقراطيتها وهياكلها ومؤسساتها ورئيستها الجميلة ديلما روسيف ..

البرازيل ليست الطبيعة الجميلة من الغابات والأنهار والسواحل والضفاف ..

البرازيل ليست الفتيات الحسان ذوات العيون الدخانية والشفاه القرمزية ..

البرازيل كل هذا وأكثر ..

البرازيل مزيج من الخيال والأسطورة .. وشيئُ من الجنة ..

تلك هي البرازيل فهل كفرتم أم كنتم من المؤمنين!

 

نعم سادتي ..

هي البرازيل تستغيث .. فتستجيب الرياح ..

تطرب .. فيرقص السهل والوادي والجبل ..

هي البرازيل نمنحها الشوق والعشق فتمنحنا الجمال والجلال ووعد اللحظة الخرافية ..

تنسج الأساطير كالأمهات في ليالي الشتاء الطويلة فننام على وسائد من حرير ..

هي الذهب في نقائه ..

والنخيل في كبريائه ..

والملك بيليه في دهائه ..

 

هي جارنيشا وريفيلينو وتوستاو وسقراط وزيكو وفالكاو وايدر وروماريو ودي نيلسون ورونالدو ورنالدينيو ..

هي 1958 ، 1962 ، 1970 ، 1994 ، 2002م ..

هي 1997 ، 2005 ، 2009 ، 2013..

كن برازيلي الهوي .. تكن فنان

كن برازيلي الهوي .. تكن إنسان




















Tuesday, June 4, 2024

 

تقول صديقتي أميمة العبادي في رسالة:

(أول ما يخطر بذهني عندما اُسأل من أين أنتِ - وكثيراً ما يحدث هذا - فنحن شعب مغرم بتحديد المناطق والقبائل
أول اجابة تخطر بذهني أنني من لا مكان أو أنا من كل مكان أو أن دمائي متفرقة
وجذوري متداخلة ولساني يتحدث لهجات كُثر وجلدي بألوان قزح وقوامي له شكل النخيل وتفوح مني رائحة الدعاش
وبيتي خيمة متنقلة ودثاري الصحراء
أنا بنت الفقر الكريم والبسمة المرحابة والكلمة الصدقة والجمال الخبئ ، أنا من حجرٍ ومن رمل ومن مطر ،
أنا من مدائن الفراش والغيوم وقُبلة النهار وندى الصباح ، أنا من نجمة بعيدة ودفتر صغير وقلم أزرق ،
قلبي سائح موزع بين الأقاصي ، سقد لاينام ، يرعى قطيع الحب في البلاد البعيدة والقريبة والوديان ،
ويهتف عاشقاً مجنوناً بوطن غاب عنه الإكتمال . وأحمل في داخلي قلباً سرياً للأحزان الصغري و الرحيل الجماعي ،
ترى هل أجبت كاشفة عن أنني من بلد كله ماؤيا في دمي .
غير أنني من لا مكان فلا هذا الرماد بيتي ولا هذا الصمت لُغتي ولا تلك النفوس أهلي ولا هذا القحط رزقي ولا تلك الخُطى .
بت غريبة في داري وفي صوتي و أسراري ، النهار أختطفه مارد خبيث ليئم ، وبيتي أُحرق برصاص احمق وعقل طائش وحولي لا أحد ،
المدائن عُبأت بالرياح والعويل والهواء صار فاسداً والسراج أطفأه فحيح سام والنفوس معلقة بالفتن وأهواء الدنيا وشر المال .
صرت غريبة وصار الوطن غريبا في أهله ، من يبيعني كوكباً لا يموت فيه الناس بالجملة ولا يتصارع حكامه في الهواء الطلق وعلى العلن ، ولا تُباع
فيه الأديان وتُشترى ولا يكون إنصافه عنوة ولا عدله بالإقتتال ولا نقاش أهله إنقساماً .
من ترأه يدلني على وطنٍ وعشق وضوء وهواء وزهرة سوسن)

..

نعم، عزيزتي أميمة

من نحن؟

أي الأزمان؟ أي الأمكنة؟

كأنَّا ما كنَّا يوماً .. ولم نكنْ..!

فما نحن إلا كجرف هارِ .. أو زهرة برية لا تنتظر المطر..!

كل شيء يضيع بين الصمت والكلام..

فعندما تصبح يدك عاجزة عن إدراك الدواء في الطاولة المجاولة للسرير..

عندما لا تقوى الشمعة على إضاءة عتمة المكان..

عندما تتحالف الأضداد لتصد الرياح والأمطار وتحتشد لاغتيال العصافير..

عندما يكون التفاؤل والأمل المشروع حلماً خرافياً.. طفلاً يبكي ليمسك القمر..

عندها تصبح "الكتابة جميلة محملة بالقيم والرسائل المحرضة ولكنها حالمة"

عندها تبدو اللوحة سريالية تبحث عن مكان لا يشيء ولا يفي..

نعم عزيزتي أميمة

لقد سرق فرانكشتاين أعمارنا وأفسد حاضرنا ومستقبل أبنائنا ولم يتوب أو يندم حتى مات!

وجاء أسد نيميا النتر ليسجننا في الجزيرة المسحورة

وتحولت الأيدي المتوضئة فأصبحت كأفعوان ليريا ذو السبعة رؤوس تأكل الخنزير البري وتتعقب الظبية الذهبية

كم من الوقت يجب أن يمضي لنتخلص من طيور ويستفاليا التي تتغذى على لحوم البشر؟

كم من الوقت يجب أن يمضي ليتعافى الوطن .. كم من الدعوات والصلوات والاغنيات والنشيد..؟

كم رصاصة يجب أن نطلقها .. أي جحيم أو سلاح؟

كيف نلعن إبليس؟ هل نزور المدينة في الوادي المقدس؟

كيف تنطفئ نار المجوس؟ وهل كفرنا بالآلهة والأب زيوس؟ هل ماتت فينوس؟

لماذا صار لجالينوس وجهين في رأسه؟ كيف حمل "تنتالوس" قلبين في جوفه؟ كيف خسر "مارس" ؟

نعم من نحن، عزيزتي أميمة؟ فقد جفَّت الغابة الاستوائية وشحَّت السماء المدارية وأنكر البحر أمواجه الأطلسية!

نعم، من نحن؟ من أي مكان وإلى أي مكان؟

نعم، نحن من اللا مكان!

قالها صديقنا الدكتور هاشم صالح في متاهته الوجودية والوطنية (في الماضي السحيق، كنت أقرأ في كتاب هيدغر الجميل «دروب تؤدي إلى لا مكان». وكنت أشعر بالانجذاب والانخطاف إلى هذا اللامكان الساحر الخالي من رعب البشر وزمجرات التاريخ. وفي ذات الوقت كنت أتساءل: هل يوجد يا ترى شيء اسمه اللامكان؟ أين هو؟ في أي منطقة من مناطق العالم يتموضع؟ لم يكن يخطر على بالي إطلاقا أني سأصل إلى هذا اللامكان يوما ما بل وأستقر فيه نهائيا. بمعنى من المعاني فأنا شخص غير موجود على الإطلاق. ربما كنت موجودا من خلال كتاباتي وترجماتي، ولكني كشخص من لحم ودم غير موجود أبدا، لا أرى أحدا ولا أحد يراني، اللهم إلا بعض المتسكعين والمتسكعات من أمثالي.. عندما لا تستطيع الانتماء إلى أي جماعة أو حزب، عندما تفقد كل تواصل اجتماعي مع البشر، عندما تصبح منشقا حتى على نفسك، فإنك تقترب من منطقة اللامكان هذه. لا ريب في أن المجروحين الذين يتساقطون الآن دفاعا عن إنسانيتهم، عن حريتهم وكرامتهم، هم من جماعتي لأني جرحت قبلهم ودفعت الثمن باهظا. ولكن ما عدا ذلك؟ ما علاقتي بكل ما هو موجود؟ لا أستطيع أن أنتمي إلى أي طائفة ولا أن أنحصر داخلها حتى ولو ذبحوني! الانغلاقات ضيقة علي. الناس الطيبون موجودون في كل الجهات، والأشرار أيضا. مملكتي ليست من هذا العالم، يقول السيد المسيح.. أريد عالما آخر، أحلم بمجتمع آخر لن أراه بأم عيني. ولكن لا توجد قوة على سطح الأرض قادرة على أن تمنعني من الحلم به)

 

نعم عزيزتي أميمة من يدلنا على وطنٍ وعشق وضوء وهواء وزهرة سوسن؟

 

تقول صديقتي:

كم كنت أتمنى أن أكون مثل رجال المال والأعمال أمتلك قصوراُ تلامس السحاب وتراقص النجوم وأقضي إجازاتي في المالديف وجذر الكناري وهونولولو.. كم تمنيت أن أملك يختاً يطوف موانئ المدن الجميلة ويحلّق بي في جذر الأحلام.. كم تمنيت أن أكون مديرة لشركة عابرة للقارات يستقبلني مطار ويودّعني مطار آخر..

تقول كم تمنيت أن أكون مثل بيل جيتس أملك عشرات المليارات ولا أترك لعائلتي سوى عشرين مليون وأتبرع بكل أموالي للأعمال الخيرية والبحوث العلمية.. أو .. مثل وارن بوفيت أتنازل عن 80% من ملياراتي لصالح مؤسسة بيل جيتس الخيرية.. أو مثل )جاك ما( أوظّف مقدراتي من أجل الإنسان والمعرفة والتنوير.. من أجل الحرية والعدالة والارتقاء..

 

ويقول صديقي:

"كم تمنيت أن أكون وحيداً كتمثالٍ هيليني يغطيه الرخام، وتتوالى عليه الزوابع والفصول، وألا تصبح عزلتي مخيفةً إلى هذا الحد.. كم تمنيت أن أكون كرمة في تلال بعيدة، نحلة في حقول تشع منها الحياة، أوزةً بيضاء تشق بصدرها مياه بحيرة في شهر أبريل.. كم تمنيت أن أكون مثل عاصفةً أطلسية، لوحةً لسلفادور دالي، قصةً لفرانز كافكا، شيئاً ما مجرداً لا تحتمله كثافة هذه العوالم الموغلة في التجسيد..

يقول كم تمنيت أن أكون بساطاً سحرياً يطوف بالعالم، سلماً كونياً يحملني هناك فوق قباب السماء، وكم تمنيت أن أسمو عالياً عالياً مثل ملاك سابحٍ في بحار الملكوت، وروحاً بريئةً تحط على قلوب الناس فتضيئها.."

وأنا كم أتمنى أن أكون راعيا لأغنام أعيش بين الجبال والسهول وعلى ضفاف البحيرات والأنهار بعيدا عن هذه الحياة وغموضها وتعقيداتها.. بعيدا عن السياسة وأكاذيبها.. بعيدا عن الكون والناس والحياة..

كم كنت أتمنى أن أكون راعيا كل عالمي هو العشب والمياه وأغنامي.. أشرب لبني وأناجي البحر والسماء والنجوم.. وأعزف قيثارتي مشاعر بريئة لا تعرف الحقد والظلم والكراهية.. وأعيش بعيدا عن الرأسمالية والفاشية.. بعيدا عن التضخم والعجز والاقتصاد الحر.. بعيدا عن الإقصاء والإرهاب والتكتل والتدويل..

 

كم أتمنى أن أكون مثل صديقتي من رجال المال والأعمال.. وأن أكون مثل صديقي تمثالاً ونحلة وكرمة وعاصفة أطلسية.. وأن أكون راعياً بين السهول والجبال.. وأن أكون أنا كما أنا...

(ألا ليت شعري ماذا يريد الإنسان؟)

 


Thursday, October 6, 2011



















الغالي كدمع المحبين .. عباس
من وحي هذه الصورة التعبيرية
تجدني أجلس معك في اشتياق
هذه أرضية حوشنا الكبير .. وعلى هذا الرمل كم جلسنا
كم ضحكنا .. كم بكينا وتناجينا .. وحدثنا الماضي وما رحل به .. والحاضر وما يحمل .. وذاك المستقبل الآتي وما يحتمل ..
كم صبرتَ أنتَ على علمي وجهلي .. كم صبرت على جِدِّي وهزلي .. وكم ردعتني على سخفي وترهاتي .. وكم كنت أنا بذلك سعــــيد
كم ألجمتني بقولك ( أعمي ما بتشوف .. حيوان ما بتعرف .. أبله ما بتفهم ) وما أكثر ما كنت أنا أعمي وأبله وحيوان .. نعم
تجدني اليوم أحبك أكثر .. أحبك أكثر من أي وقت مضى
أحبك .. كما أحب ليلي وعلا وملاذ وجيهان ووجدان وريان
أحبكم .. فأنا لا أملك غيركم .. أنا فقير إلا بكم
هذه الجلسة الهادئة تذكرني بطمأنينة بلادنا .. حيث لاهم ولا خوف ولا قلق .. وأموت أنا في هذا السجال مرات وأحيا وألمح الأشباح في جوف الضباب فأرتوي فرقاً
هذه الرمال الرطبة أفتقدها وأنا هنا داخل الغرف المكندشة بالفريون تحت الوسائد الوثيرة والألوان المخملية
هذا الجلباب الأبيض .. يذكرني بضميرك وستائر روحك الشفافة .. حيث الناس هنا باعوا ضمائرهم لقاء حفنة من الريالات وماتت أرواحهم بفعل التراكم والروتين والواقع العبيط
هذا الجلباب كم ارتديته وتلفحت بعمامته وانتعلت هذا المركوب ومشيت به الخيلاء لا تفاخراً بل عزَّاً بكم
أحدثك اليوم وقد رحلت سوزان بالأمس مأسوفاً على شبابها وأطفالها .. رحلت وما تزال كل الأرواح تنتحب عليها
رحلت كما رحلت قبلها سارة وعزة .. ومثل ما رحل ابراهيم
رحلوا والحزن يبقى عليهم أبداً .. فأنا لا أقوى أن أتمثل قول حكيم الهند طاغور وهو يقول "الزهرة تذبل وتموت .. وعلى من يحمل الزهرة ألا يبكيها طويلاً"
أحدثك اليوم وتبدو خيبات العمر فاضحة
والانتكاسات العاطفية كاسحة
وفي الأعماق ألف جرح وجرح
كل شي أضحي بعيداً .. وطني .. أهلي .. وحبيبتي
هل قلت حبيبتي؟
حبيبتي ! تلك الرياَّنة المغسولة بماء الكوثر
تلك الفتاة النائية التي يفصلني عنها بحر من الملح وبحر من الدموع
بارك الله أياماها وعطَّر كل ثرى تمشى عليه .. وأنا هنا بوادي غير ذي زرع

بالأمس في عيد الحب .. تراكضت كطفل مع جموع المحبين واشتريت وردةً حمراء
كنت سعيداً وأنا أغني مع العشاق .. كأنني منهم !
وعندما انتصف النهار ومضى كلٌ لبغيته .. وقفت وحيداً أشعث أغبر
لمن ترى أغني؟
لمن أبث فني؟ وفرحتي وحزني؟
ولمن أهدي وردتي؟
وفي نهاية النهار ذبلت الزهرة وماتت! مثل كثير من الأحلام .. مثل كثير من الخطي التي مشت ولم تصل
ماتت الزهرة


قبلتها بحنان .. وصرت أردد
ومهما تبعد الأيام تلملم خطاويها
تلقيني وحيد حفيان أجري وأباريها
أطارد خيال ناساً حنان غناهم كان محليها
وألاحق ظلال زولاً بعيد شال الدنيا والفيها

Saturday, July 5, 2008

وفاء



في جيد الزمان إكليل للراحلين
الذين يسقون الدرب بماء الحياة
الذين يأتون كأمطار الله
لا تختار ناحية السقيا
..تأتي كما يأتي الورد بالشذى ..وكما تأتي الشمس بالضياء ....يأتون ..وإن رحلوا لا يرحلون
...
..
.
مثل بندر شاه
جاء كحلم ورحل كغيمة
لا ندري من أين جاء
..عامل صحة بسيط كان يكنس شوارعنا وقلوبنا من كل أذى
رحل فبكته الشوارع والأشجار والبلابل
بكته الابتسامة التي كان يضعها على شفاه الصباح .والقبلة التي كان يزين بها وجنات الأطفال
جاء نقياً كالفجر
ورحل جميلاً كالأصيل
جاء طاهراً كالملائكة
ورحل بريئاً كالأطفال
جاء غريباً .. ورحل غريباً فطـوبى للغرباء
...كان في كل صباح يطل بابتسامة
يحلق حوله أطفال المدارس قبل طابور الصباح .. ونشيد أمتي يا أمة الأمجاد والماضي العريق
يتحلقون حوله وبابتسامة أب حانية يشتت لهم حلاوة دربس ويغني .. فيغني الصباح .. وتجف ألف دمعة حزن وفاقة
كوكين جاء ..يا أحبابو
كوكين جاء .. يا جلابة
شوف عيونو .. كوكين جا
شوف سنونو .. كوكين جا
برم شنبو .. كوكين جا
لولح ضنبو .. كوكين جا
واعمل حسابك
واعمل حسابك
واعمل حسابك
ثم صرخة بريئة .. يصرخ معها كل أطفال المدارس فيضحك الصباح ..وتبتسم العصافير والحمائم والقماري ..وينسى الشارع أحزانه لحين ..
..
ألا رحم الله العم هارون ود راشد الأب الروحي لأكثر من عشرة ألف طفل ..رحمة واسعة وصلت عليه الملائكه وذكره الله فيمن عنده ..
.

باقٍ أنت يا هارون ..في القلوب والحنايا ..في رواكيب الذاكرة .. في حكايا الأطفال ..في أبواب المدارس .. في القراطيس ..وفي ألف باء تاء ثاء ...

Saturday, March 15, 2008

.. شمالاً

.. في رحلته الخالدة .. يمضي النيل بعمق التاريخ .. إلى محطته الأخيرة في الأراضي السودانية
.. هناك تصفق أمواجه وتلوِّح مراكبه بأشرعة الوداع في حلفا القديمة
هنا كان لحلفا شرف وداع النيل معبأ بنسيم وملامح السودان ومحملا برسالة إلى بحار العالم عنوانها جئتكم من "الخرطوم" بحبٍ عظيم
.. ومع المجتبى في نعيه نردد نحن في وداع النيل
.. هات لي منظار حدثك والتجلي
.. والنبوءات المبنية والصفاء
.. وحين ينكشف الغطاء
.. من لي برؤياك الحبيبة ..غارقا في النور ..في غيب السماء
.. في مدى الصحراء منداحا
.. وفي الغاب المموسق .. من زئير الأسد .. والريح الغضوب
.. همهمات الوحش والطير المغرد واللعوب
.. وشوشات الغصن أو همس الحفيف
.. وبمثلما ودَّع أهل حلفا النيل ليواصل رحلة الخلود ..كانوا قد ودعوا حلفا القديمة إلى حلفا الجديدة
.. هكذا .. وداع .. في وداع .. لا ماء يروي .. ولا نداء يجدي .. ولا لقاء
ودعوا نبتة .. ترهاقا .. وبعانخي .. فارقوا النيل والصحراء ..مسحوا دموع موتاهم في قبورها .. دفنوا ذكرياتهم ..حملوها حفنة من تراب .. إلى حلفا الجديدة
جاءوا .. الي المزارع والخضرة وهواء المطر .. ولسان حالهم يقول أيلطف النيران طيبُ هـــواء


.. جنوباً

إني رأيتك في جوبا .. عبقا من الغابات يرفل في الضياء )
(شمسا تزوجت للتو وأنجبت خط الاســتواء
.. جوبا .. شمس نحاس .. وبحر قرمزي
.. رجال كالبرونز .. سواد ملوكي ونساء أنجبن حين غنت الطيور في جنات عدن
ستعود جوبا الجريحة ..ستعود جوبا حبيبة الحياة .. ستعود بطعم التاريخ على أشرعة النور وسنا الأقلام ومرافيء الاستقرار ..ستعود لجوبا أعيادها وليالي الزفاف الجميل .. لمزارع البن والشاي في ( ياي ) أيامها وأغانيها العذبة ..وسنأتي من السوباط .. بحر الغزال .. بحر الجبل .. جونقلي .. وبحيرة نو ..وسنذهب إلى ملكال .. واو .. بور .. توريت .. كاجوكاجي .. نمولي .. إلى .. ( سرسيو ) و (كتري ) و ( مندري ) و ( بازي ) .. بأفراح الخريف ورقصة المطر ..ونعزف لبتهوفن سيمفونية "نهاية الحرب" ..ونغنى مع (كيلا) وكورال الدينكا والنوير والشلك واللاتوكا والباريا والانواك
.. سنغني جميعا " صديقنا منقو ".. نحن روحان حللنا بدنا .. منقو قل لا عاش من يفصلنا
.. ونرقص مع (النور الجيلاني) جبل لادو كل الشافوا ابدا ما نسوا
.. جبل الرجاف الما بنشاف
.. تقبل جاي تداعب في غصين الشاي .. هاي هاي تقبل جاي تراقص في جنا البابا
.. سنغني مع التاريخ ..مثلما استشهد في مدفعه عبد الفضيلعبد الطيف وصحبه
.. غرسوا النواة الطاهرة ونفوسا فاضت حماسا كالبحار الزاخرة
.. من أجلنا اقتاتوا المنايا
.. غنوا لهم يا اخوتي ولتحيا ذكري الثائرين
: ومع مصطفى سند نردد
.. في الصدر تنهشني دوارك يا سهول
.. ويا جروف ويا مراعي
.. أنا من وثاق العرف محلول الشراعِ
.. أبكي وأضحك لا يبين تبذلي العاري ولا يبدو ضياعي
.. أنا في جحيم الغاب في أبدِ التلاحم والصراعِ
.. غنيت للسود .. للعائدين من الحدود للشمس تغسل بيتنا العالي من مطر البنادق
.. لمن ماتوا ومن يبسوا على أعواد المشانق ..أنا في الطريق إلى الشمال
.. وأنا فى الطريق إلى الجنوب ..أعزكم أبدا وأحلم أن ألاقيكم .. بلا جسر يحول ولا عوائـق


جوبا .. شمس نحاس .. وبحر قرمزي
.. رجال كالبرونز .. سواد ملوكي ونساء أنجبن حين غنت الطيور في جنات عدن

Wednesday, March 12, 2008

شرقاً

كأنني أحارب عفريتا من الجن .. دقنة : لك شرف الخصومة" ضابط انجليزي "
..
.
.. الشرق
.. عثمان دقنة .. التاريخ والبطولة
.. بورتسودان .. عروس البحر يا حورية .. بوابة التاريخ .. نداء المواني .. ليالي الحبور
.. سواكن .. الشناوي .. سحر البكور .. عبق الأساطير
.. أركويت .. ائتلاف الغيمة والشتلة .. النسيم "الهب شرقاوي" .. الخيال .. وجدان الغناوي
.. سنكات .. جبيت .. الهبباى ..معاني الريد
.. كسلا .. ومحي الدين الفاتح
.. جئت اليك مشتعلا
.. حدائي هاتف يشدو إلى كسلا
.. إلى البلد التى أحببت حبا لو تنزل على جوانبها لأخفي الجسر والجبلا
.. تاجوج والمحلق .. الهوى والذي يزيد النار اختيالا
.. لا .. لا .. ثم لا ..لا .. الا تعلمين أن الهوى يزيد النار اشتعالا
..
.. الحلنقي .. ابراهيم حسين
.. فاتوا يا عيون البنفسج فارقوا الأحباب طريقنا
.. وطلَّ احساس بالأسية ورش غيم الحسرة فوقنا
.. لمتين فرحنا على التلال انحنا تائه بينا شوقنا
.. بكرة ترحلي من ديارنا الزاهية .. ترحلي يا دموع
.. وتنسى يا طفل الأماني .. يا حنان غمر الضلوع
.. تنسى بالرجوع كلمة وداعنا .. يا حلاة اسم الرجوع
..
.. الشرق .. موج المواويل العذبة وانسياب التواريخ
..
.
.



غرباً

.. جبل مرة
.. والسلام لدارفـــور ألف مرة
..
.
.

Tuesday, March 11, 2008

تقول لي الساعة كم؟
.. لو كنت عارف الساعة كم
.. لو كنت فاهم
.. ما كان المواعيد صارت وهم
.. ما كان الرصيد في الجيب عدم
.. ما كان بكينا ليلاً طال
.. وحالاً مال
.. وما كان بتلقانا اليوم نخم
.. تراب بيتاً كبير مال وانهدم
..
.. زمان كنا بنعرف الساعة كم
.. لما كنا واحد
.. لما كان الحلم واحد
.. لما كان الدرب واحد
.. لما كان الغيم هو العشم
..
.. تقول لي الساعة كم
.. الساعة لحظة رحيل الغنوة
.. والفرح والنم
.. ساعة تجيك زينوبة مكندكة
.. محزوم خشيمه ترسم دمعة
.. تكتم آهه تتألم
..
.. الساعة لحظة زمن ظالم
.. لحظة سفر فوق مدارج
.. الوجع والهم
.. والساعة عمراً كتبناه
.. فوق اللوح
.. ومشوار مشيناه .. قدم قدم
.. والساعة شتات كوماً كبير
.. رصَّيناه بالدموع والدم
..
.. والساعة يا سيد الاسم
.. رغم العتاب واللوم
.. الساعة لحظة حبورك
.. موسم خريف يهزم حريقنا ويبتسم
..
بس إنت .. قول لي الساعة كم؟
..
.
.

Monday, March 10, 2008

.. نفتقدك
.. أين أنتِ
.. يا زهو الأماسي الرائعة
..
.
.

.. نشتاقك
.. ولا ندري
.. كيف أضعناك
.. ثم عدنا لجحيم الفاجعة
..
.
.

.. تبعدين
.. لقاؤنا ودي
.. وبيننا تنمو الخطوط
.. والعشب الأخضر
.. وأشجار الزيتون
.. تبعدين
..
.. ويمتد سباق المسافات الطويل
..
.
.
.. ولن ندفن وردة الذكرى
..
.
.
.
.. بل
.. نزفها عروس في فستان الزفاف
..
.
.

Friday, February 8, 2008

.. غادة


القيادة بإهمال في طرقات الزواج

.. الأخت غادة

.. وصلت إلى مكتبي اليوم متأخراً على غير العادة
صيف الرياض حارق هذه الأيام .. درجة الحرارة في الصباح تتجاوز الأربعين درجة مئوية
تتكثف ذاكرة السنوات في ذهني .. تتجمع .. وتتلاقي أشجارها وأزهارها وتضاريسها .. وتضج عصافيرها لزيارة قريبة إلى وديان طال عنها الغياب
.. السودان
الوطن الواحد .. مراتع الصبا وحقول الذكريات
بخاطر مشحون بأشواق السفر .. دخلت مكتبي .. خففت خناق ربطة عنقي .. وأخذت نفساً عميقاً .. وابتسمت رشوة لليوم الجديد
كل يوم نأتي للعمل مثل يومنا الدراسي الأول بجسد ثقيل وهم كبير ويكاد المرء يصرخ ويقول "عايز ماما" زي ما بقول أنيس منصور
.. الحياة تقيدنا بسلاسل كثيرة
.. وتغرينا بمباهج كثيرة
.. ترهيب وترغيب
.. رحيق وحريق
.. عسل وأشواك

دخلت سودانايل .. قرأت السواقة بإهمال في طرقات الزواج .. وغادة عبد العزيز خالد .. (أختنا وصديقتنا الحنونة) .. عنوان موسيقي رائع يذكرني بلوحات التنبيه والمعالم الجميلة في الطرقات السريعة "أمامك منحنى" .. "خفف السرعة" .. "أكرم الطريق يكرمك الطريق" .. تذكرت التعامل الخشن مع الرقائق والتناول الفظ للقيم النبيلة .. تذكرت المحاذير والخطر وإشارات المرور والراغبين في دهاليز ذلك المشوار
تذكرت أمي وسؤالها المتكرر .. متى يا بني ستحملنا في قطار الفرح؟
.. كنت دائماً أقول لوالدتي
.. "يا حاجة أنا أعشق حريتي .. ولا أحب المغامرة في طرقات ربما لا تحتفي بقدومي وربما لا تكرم وفادتي
كنت أقول لها إنني أحمل قلباً رحيباً وحباً ربما يسع كل هذه الدنيا .. لدى ألف أغنية للحياة ومليون فكرة لأشكال الفرح .. ولكنني أخشى الطرقات المجهولة .. ولا أحب أن أكون ظالماً تطارده لعنات العدالة والضمير .. كما لا أحب أن أكون مظلوماً يرتوي بدمعه وينظر بمنظار الذكريات الأسود
لا شك أنني أتطلع "لامرأة نخلة تمنحني معني أن أحيا" .. نمضي معاً نصفف الورد في حديقة الحياة .. ولكن كيف لقاؤنا ؟
:قولي يا أمي لعصفورة في المجهول
.. آسف أديك احساس الزول الخايف
.. آسف .. وبس لو تعرف
.. انك شمسي الغايبة وحقيقة ظلي الزايف
.. آسف وبس لو تعرف انك عزمي الضائع
.. وشراعي الممدود للريح والبحر العاصف
.. شايف
.. شايف كيف بتوسد حزنك واعزف
.. بس .. آسف
.. لكن من دونك تبقى الدنيا لفايف
.. محروقة بي نار الوقت التافه
.. نبقى الليل الطوَّل وواقف
.. وتبقى القمر المالي الدنيا وما بنشاف

وحتى ذلك الحين بلِّغي يا أمي تحياتي لكل العصافير؟ "
..
.
.. تعرفي يا غادة
كثير من الناس لا يعرفون قيمة ما يملكون ويخونهم التقدير السليم .. فيرون الضفة الأخرى هي الأجمل زي ما الخواجات بقولوا

Its always green on the other side of the hill ..
.. كثير من الناس تأخذهم الأنانية .. وينسوا أن الحياة أحلى في العطاء
أسوأ الظروف تلك التي تفرض نفسها عليك ولا تستطيع التحكم في مساراتها .. تلك التي تطوي الدروب المستوية كالحبال وتخنق بها أمكانية الأمل
.. يحزنني الذين يزرعون النسيم ويحصدون العواصف
.. تحزنني الشتول اليانعة التي تجف في مزارع اللئام
.. تؤلمني دموع الظلم في الخدود البريئة
.. ويؤلمني أن أصدق "أن الدنيا محكمة لا عدل فيها"

.. نعم
.. إنها القيادة بإهمال ليس في طرقات الزواج فحسب .. بل في كل طرقات الحياة

.. شكراً غادة على تلك المقالة الرائعة
.. واللعنة على الذين يغتالون الفراشات التي تحلق في فضاءاتها البنفسج
.. والتحية للأوفياء الذين يزرعون كل يوم وردة في بستان الحياة
..
.

Sunday, January 13, 2008

.. يا للأسى .. قالت نبتة الصبَّار
.. الحياة تحاصرني .. مناخي صحراوي وجواري جبل .. يقتسمان ندائي وما تبقى من أمل
هل يحق لي أن أتساءل ؟
أن أرجو ارتحال جيوش الرياح البربرية من نافذتي ؟ وأن أضع دمعتي على وسادةٍ حانية ؟هل لي أن أحلم ؟ وأي حلم ؟ وهل لي أن أفكر ؟ ألم يقولوا "كلما زاد فكري قلَّ وجودي ، وكلما قل فكري زاد وجودي" ..؟ألست أنا مجرد نبتة متوحشة تعيش على صخرة مهملة ؟ أم أنها سفينة "باسكال" قد أبحرت وليس في وسعنا إلا أن نمضي ؟
مصيبتان في الحياة أن تعطيك ما تريد والثانية ألا تعطيك " .. أحقاً ما تقول يا اوسكار وايلد ..؟"
قلَّ ما تأتي تلك الأفراح التي ننتظرها في محطة ..وقلَّما يجيء أولئك الذي يضربون لنا موعداً . فيتأخر بنا أو بهم القدر .ولذا أصبحت أعيش دون رزمانة مواعيد ، كي أوفر على نفسي كثير من الفرح المؤجل) .. أين أنت يا أحلام مستغانمي؟
لا شك أني أثق بالقدَر .. وأضع مقود سيارتي في يده حتى وهو يدخن سيجارة ..دائماً نستقبله في غير ملابس الضيافة .. لمَ ؟ ألانه يأتي بدون مواعيد وأن حكمته المجيء بغتةً ؟ أم أنه الجهل بمفاتيح المعابر والحدود ؟
أتراني جميلة في هذه القفار؟أتراني أحسنت الاختيار؟ هل كنت سأبدو أجمل مثل تلك الصنوبرة لو كنت على حافة النهر .. تتخلل أصابع الرياح ضفائري وتضع المكياج على وجهي ؟ كنت دائماً نبتة صغيرة بأحلام كبيرة وربما كانت شجرة الصنوبر متخمة بنعماء كبيرة وبلا أحلام ..ربما لدي مشوار مرهق أسعد بتحدياته .. وربما تكون الصنوبرة بلا تحديات ولا قضية
من الذي يضع الأجوبة في حقيبة السفر الخالية ؟ أم أننا نبدو أجمل في بدلة السؤال ؟
وهذا العصفور ..أعشقه .. يزورني دائماً في نهايات المواسم .. عند بداية حصادي الخواء .. وفياً جداً للذكرى ..وعندما أسأله عن الرحيل وهل يمكن أن أحلًّق في الفضاء .. يجيبني ..دعك عن السماء .. ستعاني كثيراً إن تعلمتِ الرحيل ..ستبكي كثيراً إن رأيتِ كل الأشياء بوضوح ..ولكن ..أي رسالة يمكن أن أبلَّغها ؟أي أرقام يمكن أن أضيفها في كتاب الحياة ؟ على هذا الطريق مرت آلاف القطارات والسفن والعربات .. بعضها ترك أثراً على الصخر والماء والهواء ..وبعضها غادر بلا ظلٍ ولا صدى .."من هنا مرت آلاف الوجوه والأقنعة ..مرت آلاف الأنهار والطيور والمدن والكتب والهموم " .. أما تزال تنتظر قطار فرحك يا عدنان؟ما زلت تنتظر .."حتى أعشبت قدماك من الوقوف ..بائع السجائر نظر إليك .. هـزَّ كتفيه ..مضى الشرطي ساخراً ..بائعة الهوى التفتت مرتين .. ثم بصقت ..مفتش المحطة قال هؤلاء المجانين ماذا ينتظرون ؟"أنت هناك تنتظر أمام العابرين والساخرين .. وأنا هنا بجوار جبل .. أسأل ولا يجيب ..
..
.
وبينما هي على حافة السؤال والتأمل ..بين التضاريس الصخرية والدهاليز الفكرية وأنفاق المجهول ..إذا بكتلة تسقط من قمة الجبل ذهبت معها نبتة الصبار إلى مخزن التاريخ .. ولا عزاء إلا من صوت الريح وعصفور شريد
.. ذهبت كضفائر المساء
.. مضت كما جاءت .. ومعاول الحياة تبني وتهدم
.. وانقضى عمر قصير كابتسامة .. لم تعد عصافيره عند الغروب .. ولم تتسع مآقيه لدمعة
.. يا للأسى
..
.
يا للأسى
أهي صرخة؟ أم آهة؟
أهي احتجاج؟ استعلام؟ أم استسلام؟
أهي الحزن؟ أهي الرجاء؟أم هي الألم؟
أهي الوجود المفقود؟الحقيقة الغائبة؟ أم هي العدم؟
يا للأسى ..من ذا يعيرها عيناً للبكاء ؟
من يتنفس آهـتها ويملأ رئتيها بالهواء؟
من يمسح دمعتها؟من يملأ صحنها بالحياة؟
يا للأسى ..من يعود بشوارد الظباء؟
من يعرف الجبالَ والصحراء؟
من يغيب في عين حمئة؟
أو في الوادي المقدَّس ويعود بقبسٍ من ضياء؟
وهل إلا الأشقياء ..؟
الذين يتسلقون سلالم السماء فيتبعهم شهاباً رصدا؟
وأين الأوفياء ..؟جنود القلب والبحيرات الظِماء ؟
.. العارفين .. أبناء الحكمة
أم أنها الظلال المباركة والإشارة البيضاء؟
تفقدها عيون النهار وتدركها مصابيح المساء ؟
أهي نعم أم لا؟
هل ..كيف ..متى ..ولماذا ..؟أم أنها الرؤى العجفاء ؟
..
.

وهل لي أن أفكر ؟ ألم يقولوا "كلما زاد فكري قلَّ وجودي ، وكلما قل فكري زاد وجودي" ..؟
..
.
أهي العبثية؟ا
لوجودية؟
البراجماتية .. أم أنها اللغة الصماء؟
صمويل بيكيت؟
بول سارتر؟
وليم جيمس؟
أم أنها الفلسفة الجوفاء؟
وهل يشقى في النعيم بعقله؟
ويسعد ذاك في الشقـاء؟
هل خلقت لنا الحياة؟أم خلقنا لها؟
هل خلقنا لنموت؟
أم خلقنا لنحيا؟
هل الحياة موت أم الموت حياة؟
أم باسكال وسفينة الفضاء ؟
وهل الموت إلا معنىً للبقاء؟
.. يا ساقية الريح مهلاً
.. وقفي يا طواحين الهواء
.. ببابك قد مرَّوا منذ آلاف السنين .. ويمرون لنافذة السماء
.. كلهم ..البواب والحطّاب
.. الجاهلون والذين أدركوا سر الخطاب
.. كلهم مرَّوا من هنا
.. صيفاً وخريفاً وشـتاء
.. فليت شعـري وليت الطير تخبرني
كيف الذهاب .. ومتى الإياب ؟
..
.
مصيبتان في الحياة أن تعطيك ما تريد والثانية ألا تعطيك " .. أحقاً ما تقول يا اوسكار وايلد ..؟
..
.
.. !مصيبتان
! أن تعطيك الحياة ..أو ألا تعطيك
سيان؟
أحقاً لا خيار؟.
إما النار وإما البحر؟
إذن فيم العناء؟
أللسعادة نسعى؟
أم الشقاء؟
هل الفقر أولى أم الغنى؟
ومن هم أحباب الله؟
الزاهدون الذين هجروا الحياة ؟تمثَّلوا معاني الربِّ وارتدوا ثوب الرجاء؟
.. أم المترفون الأغنياء
الذين أخذوا المعاول ..شيَّدوا الأرض لتصير زرعاً وخضرة ..؟
أعمراً وعلياً وسعدا ؟
أَم سوسن وهيثم وغيداء ..؟
أم أنها الخيارات الوسطى ..واعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا ..؟
أم أنها الدنيا تسعى بأرجلٍ شتّى؟
.. أم
أم أنها المقارنة الخرقاء؟
..
.
قلَّ ما تأتي تلك الأفراح التي ننتظرها في محطة
..
.
الأفراح .. وما الأفراح؟
أهي السعادة؟
أهي الحبيبة ذات العيون النجلاء؟
وارتجاف القلب واضطراب المدى؟
أهي الموت على الرموش ..بين أبيض العين والمساحات السوداء؟
أو إغفاءة على صدرٍ ناهدٍ وحضن يدين ..وشفاهٍ وأنفاسٍ وانتشاء ؟
أهي الدعة والنعماء ..وأملاك وقصور وحدائق غنّاء؟
أهي العافية والشفاء؟أهي التضحية ومعاني الفداء ؟
أهي السخاء وذاتية العطاء؟
أم هي الحقيقة الكبرى ..أقمار الرب ودرب الأنبياء ؟
الذين أمسكوا النور ..هزّوا الريح ومشـوا على الماء ؟
أم لا هذا ولا ذا ؟
أم كل هذا وذا ؟
أم لا حقيقة ولا ارتواء؟
أم حتى يأذن الرب في سماواته العلا ؟
..
.

وقلَّ ما يجيء أولئك الذي يضربون لنا موعداً . فيتأخر بنا أو بهم القدر
..
.
أهو الانتظار أم هو الاكتواء؟
أهو الرحيل أم هو البقاء؟
لمن جاء أم لمن مضى؟
للقلب أم للعقل .. للآتين أم الراحلين على ريح الصبا؟
لنا أم لهـا؟
للعدوة الدنيا أم النائية القصوى؟
لمن يا ترى؟
من خاض العثرة واتَّـقَى؟
من شرب الجرعة الأنقى؟
من تبلل وارتوى؟
من يعرف الأسماء؟
أم أننا والريح سواء؟
نأتي ونمضي بلا انتهاء؟
أم أنها القوافي الشوهاء؟
قاب قوسين إذا زدنا احترقنا ..وتلك "الحدود الحمراء"؟
أم أننا كالطير والفضاء ..لنا الأرض وجوف السماء ؟
أم أنها الحقيقة من فرط جلائها لا ترى؟؟؟؟؟؟؟؟
..
.
الحياة تحاصرني .. مناخي صحراوي وجواري جبل .. يقتسمان ندائي وما تبقى من أمل
..
.
.. الحياة
قدر أم قضاء؟
داء أم دواء؟
إرادة أم رضا؟استجابة أم نداء؟
.. يا قبضة الأرض
.. أتيناك أفواجا
.. مطراً وأمواجا
.. ورياحاً هوجاء
.. امتطيناك برَّاً
.. ركبناك بحراً
.. أدمنّـا الرحيل في عينيك
.. عشقناك فاتنة سمراء
قولي .. أسراب أنتِ أم دوحة فيحاء ..؟
أظل أنتِ أم بقعة رمضاء ..؟
هل خيراً اخترنا ..أم جهلاً ركبنا السفينة الخرقاء؟
.. أم ليس لنا إلا ما هو كائن هنا
.. أم أنها الخيارات العلا
.. والإرادة الأسمى
.. كطفلٍ ووالدٍ وصيَّا
.. ودنيا إن لم تكن جديرة بالحياة
.. ما اختارها الله لنا سقياً وريَّـا
.. بلى
هل يحق لي أن أتساءل ؟ أن أرجو ارتحال جيوش الرياح البربرية من نافذتي ؟ وأن أضع دمعتي على وسادة حانية
..
.
.. ملأى جيوب الحياة
.. بالجروح والدموع والدماء
أ بلاء أم ابتلاء ..؟
بلسم أم شفاء ..؟
.. أهي الروح واللظى
والنيران التي تزيد الذهب التماعا ..؟
.. أم أننا وما اقـترفنا
.. أم أنه الجهل والغباء
.. أم أنه الوقت الذي لم يأتِ ..والشمس التي لم تشرق أنوارها
.. فالطفل يشقى
.. والثوب يبلى
.. والعمر يفنى
فما الغاية .. وما المعنى؟
.. بلى ..لله الخيارات الكبرى
.. ولله ما أخذ وما أعطى
.. قد يؤذينا كثيراً ما نرى
.. ولكننا ننسى أن الربَّ أرحم منا وأولى
..
.