تقول صديقتي أميمة
العبادي في رسالة:
(أول ما يخطر بذهني
عندما اُسأل من أين أنتِ - وكثيراً ما يحدث هذا - فنحن شعب مغرم بتحديد المناطق
والقبائل
أول
اجابة تخطر بذهني أنني من لا مكان أو أنا من كل مكان أو أن دمائي متفرقة
وجذوري
متداخلة ولساني يتحدث لهجات كُثر وجلدي بألوان قزح وقوامي له شكل النخيل وتفوح مني
رائحة الدعاش
وبيتي
خيمة متنقلة ودثاري الصحراء
أنا
بنت الفقر الكريم والبسمة المرحابة والكلمة الصدقة والجمال الخبئ ، أنا من حجرٍ
ومن رمل ومن مطر ،
أنا
من مدائن الفراش والغيوم وقُبلة النهار وندى الصباح ، أنا من نجمة بعيدة ودفتر
صغير وقلم أزرق ،
قلبي
سائح موزع بين الأقاصي ، سقد لاينام ، يرعى قطيع الحب في البلاد البعيدة والقريبة
والوديان ،
ويهتف
عاشقاً مجنوناً بوطن غاب عنه الإكتمال . وأحمل في داخلي قلباً سرياً للأحزان
الصغري و الرحيل الجماعي ،
ترى
هل أجبت كاشفة عن أنني من بلد كله ماؤيا في دمي .
غير
أنني من لا مكان فلا هذا الرماد بيتي ولا هذا الصمت لُغتي ولا تلك النفوس أهلي ولا
هذا القحط رزقي ولا تلك الخُطى .
بت
غريبة في داري وفي صوتي و أسراري ، النهار أختطفه مارد خبيث ليئم ، وبيتي أُحرق
برصاص احمق وعقل طائش وحولي لا أحد ،
المدائن
عُبأت بالرياح والعويل والهواء صار فاسداً والسراج أطفأه فحيح سام والنفوس معلقة
بالفتن وأهواء الدنيا وشر المال .
صرت
غريبة وصار الوطن غريبا في أهله ، من يبيعني كوكباً لا يموت فيه الناس بالجملة ولا
يتصارع حكامه في الهواء الطلق وعلى العلن ، ولا تُباع
فيه
الأديان وتُشترى ولا يكون إنصافه عنوة ولا عدله بالإقتتال ولا نقاش أهله إنقساماً .
من
ترأه يدلني على وطنٍ وعشق وضوء وهواء وزهرة سوسن)
..
نعم، عزيزتي أميمة
من نحن؟
أي الأزمان؟ أي
الأمكنة؟
كأنَّا ما كنَّا يوماً
.. ولم نكنْ..!
فما نحن إلا كجرف هارِ
.. أو زهرة برية لا تنتظر المطر..!
كل شيء يضيع بين الصمت
والكلام..
فعندما تصبح يدك عاجزة
عن إدراك الدواء في الطاولة المجاولة للسرير..
عندما لا تقوى الشمعة
على إضاءة عتمة المكان..
عندما تتحالف الأضداد
لتصد الرياح والأمطار وتحتشد لاغتيال العصافير..
عندما يكون التفاؤل
والأمل المشروع حلماً خرافياً.. طفلاً يبكي ليمسك القمر..
عندها تصبح
"الكتابة جميلة محملة بالقيم والرسائل المحرضة ولكنها حالمة"
عندها تبدو اللوحة
سريالية تبحث عن مكان لا يشيء ولا يفي..
نعم عزيزتي أميمة
لقد سرق فرانكشتاين
أعمارنا وأفسد حاضرنا ومستقبل أبنائنا ولم يتوب أو يندم حتى مات!
وجاء أسد نيميا النتر
ليسجننا في الجزيرة المسحورة
وتحولت الأيدي
المتوضئة فأصبحت كأفعوان ليريا ذو السبعة رؤوس تأكل الخنزير البري وتتعقب الظبية
الذهبية
كم من الوقت يجب أن
يمضي لنتخلص من طيور ويستفاليا التي تتغذى على لحوم البشر؟
كم من الوقت يجب أن
يمضي ليتعافى الوطن .. كم من الدعوات والصلوات والاغنيات والنشيد..؟
كم رصاصة يجب أن
نطلقها .. أي جحيم أو سلاح؟
كيف نلعن إبليس؟ هل
نزور المدينة في الوادي المقدس؟
كيف تنطفئ نار المجوس؟
وهل كفرنا بالآلهة والأب زيوس؟ هل ماتت فينوس؟
لماذا صار لجالينوس
وجهين في رأسه؟ كيف حمل "تنتالوس" قلبين في جوفه؟ كيف خسر
"مارس" ؟
نعم من نحن، عزيزتي
أميمة؟ فقد جفَّت الغابة الاستوائية وشحَّت السماء المدارية وأنكر البحر أمواجه
الأطلسية!
نعم، من نحن؟ من أي
مكان وإلى أي مكان؟
نعم، نحن من اللا
مكان!
قالها صديقنا الدكتور
هاشم صالح في متاهته الوجودية والوطنية (في الماضي السحيق، كنت أقرأ في كتاب هيدغر
الجميل «دروب تؤدي إلى لا مكان». وكنت أشعر بالانجذاب والانخطاف إلى هذا اللامكان
الساحر الخالي من رعب البشر وزمجرات التاريخ. وفي ذات الوقت كنت أتساءل: هل يوجد
يا ترى شيء اسمه اللامكان؟ أين هو؟ في أي منطقة من مناطق العالم يتموضع؟ لم يكن
يخطر على بالي إطلاقا أني سأصل إلى هذا اللامكان يوما ما بل وأستقر فيه نهائيا.
بمعنى من المعاني فأنا شخص غير موجود على الإطلاق. ربما كنت موجودا من خلال
كتاباتي وترجماتي، ولكني كشخص من لحم ودم غير موجود أبدا، لا أرى أحدا ولا أحد
يراني، اللهم إلا بعض المتسكعين والمتسكعات من أمثالي.. عندما لا تستطيع الانتماء
إلى أي جماعة أو حزب، عندما تفقد كل تواصل اجتماعي مع البشر، عندما تصبح منشقا حتى
على نفسك، فإنك تقترب من منطقة اللامكان هذه. لا ريب في أن المجروحين الذين
يتساقطون الآن دفاعا عن إنسانيتهم، عن حريتهم وكرامتهم، هم من جماعتي لأني جرحت
قبلهم ودفعت الثمن باهظا. ولكن ما عدا ذلك؟ ما علاقتي بكل ما هو موجود؟ لا أستطيع
أن أنتمي إلى أي طائفة ولا أن أنحصر داخلها حتى ولو ذبحوني! الانغلاقات ضيقة علي.
الناس الطيبون موجودون في كل الجهات، والأشرار أيضا. مملكتي ليست من هذا العالم،
يقول السيد المسيح.. أريد عالما آخر، أحلم بمجتمع آخر لن أراه بأم عيني. ولكن لا
توجد قوة على سطح الأرض قادرة على أن تمنعني من الحلم به)
نعم عزيزتي أميمة من
يدلنا على وطنٍ وعشق وضوء وهواء وزهرة سوسن؟
No comments:
Post a Comment