Wednesday, June 5, 2024

 

إلى أين؟

 

(.. وجوه متوترة يصفدها الزمن ..

محولة عن التحول بالتحول ..

مملوءة بالأوهام .. والمعاني الخواء ..

يتضخم فيها ورم اللا مبالاة .. والتركيز المفقود ..

والرياح الباردة تعصف بالبشر والأوراق الجافة ..

تلك الرياح التي تهب قبل الزمان وبعده ..)

يقال في الأدب العرفاني إن (الموجودات كلمات) .. فالحجر قصة .. والشجر عبارة لأهل المعرفة الذين يجيدون أصول القراءة ولكن ... عندما تتحول الأرض الطيبة بنيلها ونخيلها .. بشمسها .. في شروقها وأصيلها إلى بقعة بور عاطلة عن الحياة .. وإلى كتاب أمِّي أصم ، عندها  تتساوي قراءة الأحياء والجمادات وتصبح اللوحة غبراء شائهة كما وصفها ت.س. اليوت أعلاه . تلك هي (المؤامرة الوطنية) التي يؤديها الأبناء بجدارة فيتحول الفرد البسيط إلى (لا منتمي) يتحلل من كل الروابط المقدسة .. فيفقد انتماءه الأسري بالغياب القسري .. ورباطه الاجتماعي بالغربة الذاتية .. وأذليته الوطنية بالهجرة النفسية فما دهانا وإلى أين نمضي؟ الشكوى ليك يا ربنا ..

في لحظات العتمة وتداخل الإجابة بالسؤال واختلاط الشك باليقين يمكن أن نطرح هذا التساؤل ببراءة ساذجة .. ولكن عندما نعلم أننا في عصر علم الإدارة وسيكلوجيا الفرد وسوسيولجا المجتمع يصبح الأمر أكثر إيلاماً وأقسى احتمالا .. لقد قطعت الأمم مشواراً طويلاً في مسار التاريخ .. قامت بتأهيل الفرد نفساً وخلقاً ليكون صالحاً لنفسه ولمجتمعه بالتربية والتعليم والحرية .. وأقرت النظام بالدساتير والديمقراطية .. وبنت جسور العلاقة بين الأفراد بالثقة والاحترام والاعتراف المتبادل .. ليتحول الإنسان إلى استثمار وطني إنساني .. ويتحول الوطن إلى أم رءوم تتعهد أبناءها بالحماية والرعاية .

يقول الدكتور هاشم صالح في رحلته التنويرية العظيمة إن الأمم تموت إذا

 تعبت من العطاء الحضاري .. أو استسلمت للأمجاد .. أو وثقت بالزمان أكثر مما ينبغي وأسرفت في الترف والطمأنينة والأمان .. ولكننا في السودان نموت من الفقر الحضاري .. ونصور للمجد صوراً هزيلة .. ولا نضع للتاريخ قيمة ولا للزمن اعتبارا .. كأننا في جزيرة معزولة .. نعبد الأصنام ونستقسم بالأزلام .. ونقوم بوأد البنات .. ولنا أيامنا كيوم بعاث ويوم أرماث وداحس والغبراء .. تحركنا الجاهلية والقبلية والجهوية والعنصرية .. وفي كل يوم ترذلون ..

إن الإنسان ليصاب بفصام عقلي وعاهة فكرية ويصبح أخرساً وأبكماً عندما يعود في هذه اللحظة من التاريخ المتقدم ليرى وطنه بلداً يعيش في عصور ما قبل الميلاد .. يعاني من الملاريا والدسنتاريا .. يعلو الغبار أركانه .. يبحث إنسانه عن الرغيف والكينين .. ينزوي طلباً للأمان .. وتتضاءل كرامته فيفقد الستر واليقين .. وأكثر من ذلك تجد أناساً يرقصون طرباً ولا يعلمون أنهم يؤدون رقصة الموت الأخيرة على موال حزين ..

إن من يحب ربه ودينه ينبغي أن يحب وطنه .. ومن يحب وطنه يجب أن يحب مواطنيه .. ولتكن إنساناً عليك أن تعرف معنى الإنسانية .. فلا خير في نعيم يتمدد حولك ويقف دون آخريك .. إذ لا معنى ولا طعم لثيابك الفاخرة وحولك العراة .. ولا فائدة لسيارتك الفارهة وجوارك الحفاة .. ولا حتى للعافية إذا كان من معك يفتقد ثمن الدواء . تلك قيم صارت أساطير تحكى كالخل الوفي والغول والعنقاء .. هكذا سادت عندنا (فلسفة القوة) وصار (الإنسان الأعلى) هو القوي .. الجبار .. الظالم .. السيد .. وصار جل الشعب أرقاء وأسرى للحاجة يتكففون عاديات القدر والمصير ..

كلنا في هذا العقوق سواء وعلى هذه الخيانة ملامون .. وما هذا الكتاب إلا إقرار بالخيبة والعجز والفشل .. ولكننا نكتب فقط لننسى .. ونصلى لنتذكر .. وندعو بحزن للذين لا يستطيعون الصلاة ..

 عندما تساءل الراحل الطيب صالح من أين أتى هؤلاء؟ لم يكن يجهل .. بل كان سؤاله استنكارياً ولم يكن سؤالاً استفهامياً .. مثله مثل صديقه أبوالطيب المتنبي في صحاري نجد وهو يقول نحن أدرى إذ سألنا بنجدٍ أطويل سفرنا أم يطول .. فبعض السؤال اشتياق وكثير من رده تعليل .. لم يكن السؤال عن السفر وهو يعلم بعد المسافة .. ولكنه الشوق والإلحاح واللهفة .

من أين أتى هؤلاء؟ بالتأكيد لم يهبطوا من المريخ بل جاءوا من رحم هذا المجتمع .. من عمقه الفكري ومخاضه الاجتماعي وعبر تاريخ طويل وتموجات لقيم صعدت وأخرى هبطت .. وكانت النتيجة استجابة حقيقة لكيفما تكونوا يولى عليكم .. ولكن ما الذي يصنع الدكتاتورية؟ و ما الذي يجعل الأيديولوجي أو الدكتاتور يعتقد أنه على صواب؟

في كتاب "ما وراء الخير والشر"  يقول نيتشه ( لا تفكر في هل ما يقوله الفيلسوف صحيحاً أم خطأ ، ولكن أسأل كيف ظنَّ أنه صحيح) لأن ذلك يجعلنا أقرب لمعرفة تاريخ الفكرة والمناخ الذي أفرزها والظلال التي كانت السبب في تكوينها .. وبامتلاك ماضي الفكرة يمكن قراءة انعكاسها على الواقع وتأثيرها على بناء المستقبل .. كما يساعد ذلك كله حتى في معرفة ما لم يفكر فيه صاحب الفكرة ..

في علم السياسة ونظريات الاستبداد تعرَّف الأيديولجيا بأنها فكرة ذات اتجاه واحد ، مغرورة بذاتها ، تفترض الصواب المطلق وهي في استغناء تام عن ما سواها وتتجاهل حتى هامش الخطأ الموجود في النظريات العلمية .. من هنا تولد الدكتاتورية .. قطار يمضى بكبرياء أجوف في اتجاه خاطئ .. ومن هنا تأتي أهمية المعارضة في النظم الديمقراطية كرقيب لضبط الآداء الحكومي وشريك أساسي للتصحيح وتوسيع دائرة المشاركة ..

بعد حرب النكسة في 1967م انطلقت الحركة الإسلامية بقوة نتيجة للإحباط الكبير الذي ساد بعد الهزيمة ولتقاعس الحركات اليسارية وتفتت القومية

 العربية .. انطلقت الحركة الإسلامية تحت شعار "الإسلام هو الحل" ووجدت قبولاً هائلاً لتجذر العاطفة الدينية في المجتمعات العربية ، ولكن البناء النظري للحركة الإسلامية كان يتجاهل التطور الهائل الذي حدث في حركة المجتمعات وتعقيداتها وتقارب أطراف العالم وسيادة قيم الدستورية والديمقراطية وحقوق الإنسان .. هذا ما أدركته الحركة الإسلامية في مصر إلى درجة كبيرة مما جعلها تغير من جلبابها وتحاول الاحتماء بالوسطية والمشاركة الجماعية في الوقت الذي ما تزال فيه الجماعة في السودان تمضي في ذات الاتجاه دون مراجعة للمنهج أو محاسبة للذات ..

سئل الدكتور غازي صلاح الدين في تلفزيون السودان عن تقييمه لمسار الحركة الإسلامية فأجاب بأنه إذا كان هناك من بعث للحركة يجب أن يكون ذلك في إطار وطني .. نعم إن السيد غازي ينعي المشروع الحضاري للحركة الإسلامية ولئن تأتي أخيراً خيراً من أن لا تأتي ..

نقول هذا الكلام ليقيننا بأنه إذا فاتنا إدراك ما مضى .. فعلينا تدارك ما يأتي ..

أوتار السامــبا .. ..

(البرازيل : طيور الكناري أم طائر الفينيق الأسطوري)

 

الإبداع فكرة .. والفكرة إبداع ..

والإبداع والفكرة جمال .. والجمال برازيلي اللون والطعم والنكهة ..

قالها هيجل فيلسوف الفينومينولجيا والروح قبل قرون "الجمال هو التجلي الحسي للأفكار" .. نعم هكذا أكدها فيلسوف الكرة البرازيلية الدكتور سقراط فتجلى العقل والفن جمال ورحيق مسكوب ..

فهل أدركت سر العلاقة بين هيجل والفكرة وسقراط والإبداع والفلسفة والجمال ..؟

هكذا يؤكدها اليوم نيمار .. والجمال سليل الجمال ..

 

البرازيل إيقاع سماوي ..

لحن يحلق بأجنحة من غمام في سماء لازوردية ..

ليس غريباً أن تفوز البرازيل في عالم الكرة فالبطولات والتاريخ والأرقام القياسية ماركة برازيلية .. وليس غريباً أن ترسم على ماركانا لوحات سريالية تكعيبية دادائية .. ذلك أمر مألف وسمة فطرية يعرفها سحرة الأمازون ، لكن قيل في ألواح موسى الكاذبة وصحف الآخرين أن شمس الكرة البرازيلية قد غربت ولن تعرف الشروق وأن الكرة الأوروبية المبرمجة بالإلكترون لن يعد هناك من يباريها من الأفلاك ..

 

قالها صديقي الامبريالي النازي الهتلري عمر الفاروق في لهجة إطلاقية (تاني لا إنتي يا راقصة التانغو لا إنتي يا اسباجيتي الأمل البعيد وسامبا الارجوان البنفسج .. الألمان هم الألمان منذ الحرب العالمية وهتلر مروراً بالفلوكسواجن والمرسيدس وقوفاً عند أوزويل واشتفشتايجر)

هكذا قيل ..

 

لكن لابد بعد الشفق من الغسق .. والشمس لا تخلف الميعاد ..

فعادت طيور الكناري كطائر الفينيق الذي لا يعرف الموت فينبعث من الرماد .. عادت طيور الكناري تشقشق على سواحل ساوباولو وعلى ضفاف نهر الأمازون وشرفات الريو فغنى العالم في أركانه الأربعة مع فينغابويز "برازيل .. برازيل" .. فعفواً وحظاً أوفر للممتنعين عن التصفيق ..

 

نعم سادتي ..

البرازيل ليست الدولة بديمقراطيتها وهياكلها ومؤسساتها ورئيستها الجميلة ديلما روسيف ..

البرازيل ليست الطبيعة الجميلة من الغابات والأنهار والسواحل والضفاف ..

البرازيل ليست الفتيات الحسان ذوات العيون الدخانية والشفاه القرمزية ..

البرازيل كل هذا وأكثر ..

البرازيل مزيج من الخيال والأسطورة .. وشيئُ من الجنة ..

تلك هي البرازيل فهل كفرتم أم كنتم من المؤمنين!

 

نعم سادتي ..

هي البرازيل تستغيث .. فتستجيب الرياح ..

تطرب .. فيرقص السهل والوادي والجبل ..

هي البرازيل نمنحها الشوق والعشق فتمنحنا الجمال والجلال ووعد اللحظة الخرافية ..

تنسج الأساطير كالأمهات في ليالي الشتاء الطويلة فننام على وسائد من حرير ..

هي الذهب في نقائه ..

والنخيل في كبريائه ..

والملك بيليه في دهائه ..

 

هي جارنيشا وريفيلينو وتوستاو وسقراط وزيكو وفالكاو وايدر وروماريو ودي نيلسون ورونالدو ورنالدينيو ..

هي 1958 ، 1962 ، 1970 ، 1994 ، 2002م ..

هي 1997 ، 2005 ، 2009 ، 2013..

كن برازيلي الهوي .. تكن فنان

كن برازيلي الهوي .. تكن إنسان




















Tuesday, June 4, 2024

 

تقول صديقتي أميمة العبادي في رسالة:

(أول ما يخطر بذهني عندما اُسأل من أين أنتِ - وكثيراً ما يحدث هذا - فنحن شعب مغرم بتحديد المناطق والقبائل
أول اجابة تخطر بذهني أنني من لا مكان أو أنا من كل مكان أو أن دمائي متفرقة
وجذوري متداخلة ولساني يتحدث لهجات كُثر وجلدي بألوان قزح وقوامي له شكل النخيل وتفوح مني رائحة الدعاش
وبيتي خيمة متنقلة ودثاري الصحراء
أنا بنت الفقر الكريم والبسمة المرحابة والكلمة الصدقة والجمال الخبئ ، أنا من حجرٍ ومن رمل ومن مطر ،
أنا من مدائن الفراش والغيوم وقُبلة النهار وندى الصباح ، أنا من نجمة بعيدة ودفتر صغير وقلم أزرق ،
قلبي سائح موزع بين الأقاصي ، سقد لاينام ، يرعى قطيع الحب في البلاد البعيدة والقريبة والوديان ،
ويهتف عاشقاً مجنوناً بوطن غاب عنه الإكتمال . وأحمل في داخلي قلباً سرياً للأحزان الصغري و الرحيل الجماعي ،
ترى هل أجبت كاشفة عن أنني من بلد كله ماؤيا في دمي .
غير أنني من لا مكان فلا هذا الرماد بيتي ولا هذا الصمت لُغتي ولا تلك النفوس أهلي ولا هذا القحط رزقي ولا تلك الخُطى .
بت غريبة في داري وفي صوتي و أسراري ، النهار أختطفه مارد خبيث ليئم ، وبيتي أُحرق برصاص احمق وعقل طائش وحولي لا أحد ،
المدائن عُبأت بالرياح والعويل والهواء صار فاسداً والسراج أطفأه فحيح سام والنفوس معلقة بالفتن وأهواء الدنيا وشر المال .
صرت غريبة وصار الوطن غريبا في أهله ، من يبيعني كوكباً لا يموت فيه الناس بالجملة ولا يتصارع حكامه في الهواء الطلق وعلى العلن ، ولا تُباع
فيه الأديان وتُشترى ولا يكون إنصافه عنوة ولا عدله بالإقتتال ولا نقاش أهله إنقساماً .
من ترأه يدلني على وطنٍ وعشق وضوء وهواء وزهرة سوسن)

..

نعم، عزيزتي أميمة

من نحن؟

أي الأزمان؟ أي الأمكنة؟

كأنَّا ما كنَّا يوماً .. ولم نكنْ..!

فما نحن إلا كجرف هارِ .. أو زهرة برية لا تنتظر المطر..!

كل شيء يضيع بين الصمت والكلام..

فعندما تصبح يدك عاجزة عن إدراك الدواء في الطاولة المجاولة للسرير..

عندما لا تقوى الشمعة على إضاءة عتمة المكان..

عندما تتحالف الأضداد لتصد الرياح والأمطار وتحتشد لاغتيال العصافير..

عندما يكون التفاؤل والأمل المشروع حلماً خرافياً.. طفلاً يبكي ليمسك القمر..

عندها تصبح "الكتابة جميلة محملة بالقيم والرسائل المحرضة ولكنها حالمة"

عندها تبدو اللوحة سريالية تبحث عن مكان لا يشيء ولا يفي..

نعم عزيزتي أميمة

لقد سرق فرانكشتاين أعمارنا وأفسد حاضرنا ومستقبل أبنائنا ولم يتوب أو يندم حتى مات!

وجاء أسد نيميا النتر ليسجننا في الجزيرة المسحورة

وتحولت الأيدي المتوضئة فأصبحت كأفعوان ليريا ذو السبعة رؤوس تأكل الخنزير البري وتتعقب الظبية الذهبية

كم من الوقت يجب أن يمضي لنتخلص من طيور ويستفاليا التي تتغذى على لحوم البشر؟

كم من الوقت يجب أن يمضي ليتعافى الوطن .. كم من الدعوات والصلوات والاغنيات والنشيد..؟

كم رصاصة يجب أن نطلقها .. أي جحيم أو سلاح؟

كيف نلعن إبليس؟ هل نزور المدينة في الوادي المقدس؟

كيف تنطفئ نار المجوس؟ وهل كفرنا بالآلهة والأب زيوس؟ هل ماتت فينوس؟

لماذا صار لجالينوس وجهين في رأسه؟ كيف حمل "تنتالوس" قلبين في جوفه؟ كيف خسر "مارس" ؟

نعم من نحن، عزيزتي أميمة؟ فقد جفَّت الغابة الاستوائية وشحَّت السماء المدارية وأنكر البحر أمواجه الأطلسية!

نعم، من نحن؟ من أي مكان وإلى أي مكان؟

نعم، نحن من اللا مكان!

قالها صديقنا الدكتور هاشم صالح في متاهته الوجودية والوطنية (في الماضي السحيق، كنت أقرأ في كتاب هيدغر الجميل «دروب تؤدي إلى لا مكان». وكنت أشعر بالانجذاب والانخطاف إلى هذا اللامكان الساحر الخالي من رعب البشر وزمجرات التاريخ. وفي ذات الوقت كنت أتساءل: هل يوجد يا ترى شيء اسمه اللامكان؟ أين هو؟ في أي منطقة من مناطق العالم يتموضع؟ لم يكن يخطر على بالي إطلاقا أني سأصل إلى هذا اللامكان يوما ما بل وأستقر فيه نهائيا. بمعنى من المعاني فأنا شخص غير موجود على الإطلاق. ربما كنت موجودا من خلال كتاباتي وترجماتي، ولكني كشخص من لحم ودم غير موجود أبدا، لا أرى أحدا ولا أحد يراني، اللهم إلا بعض المتسكعين والمتسكعات من أمثالي.. عندما لا تستطيع الانتماء إلى أي جماعة أو حزب، عندما تفقد كل تواصل اجتماعي مع البشر، عندما تصبح منشقا حتى على نفسك، فإنك تقترب من منطقة اللامكان هذه. لا ريب في أن المجروحين الذين يتساقطون الآن دفاعا عن إنسانيتهم، عن حريتهم وكرامتهم، هم من جماعتي لأني جرحت قبلهم ودفعت الثمن باهظا. ولكن ما عدا ذلك؟ ما علاقتي بكل ما هو موجود؟ لا أستطيع أن أنتمي إلى أي طائفة ولا أن أنحصر داخلها حتى ولو ذبحوني! الانغلاقات ضيقة علي. الناس الطيبون موجودون في كل الجهات، والأشرار أيضا. مملكتي ليست من هذا العالم، يقول السيد المسيح.. أريد عالما آخر، أحلم بمجتمع آخر لن أراه بأم عيني. ولكن لا توجد قوة على سطح الأرض قادرة على أن تمنعني من الحلم به)

 

نعم عزيزتي أميمة من يدلنا على وطنٍ وعشق وضوء وهواء وزهرة سوسن؟

 

تقول صديقتي:

كم كنت أتمنى أن أكون مثل رجال المال والأعمال أمتلك قصوراُ تلامس السحاب وتراقص النجوم وأقضي إجازاتي في المالديف وجذر الكناري وهونولولو.. كم تمنيت أن أملك يختاً يطوف موانئ المدن الجميلة ويحلّق بي في جذر الأحلام.. كم تمنيت أن أكون مديرة لشركة عابرة للقارات يستقبلني مطار ويودّعني مطار آخر..

تقول كم تمنيت أن أكون مثل بيل جيتس أملك عشرات المليارات ولا أترك لعائلتي سوى عشرين مليون وأتبرع بكل أموالي للأعمال الخيرية والبحوث العلمية.. أو .. مثل وارن بوفيت أتنازل عن 80% من ملياراتي لصالح مؤسسة بيل جيتس الخيرية.. أو مثل )جاك ما( أوظّف مقدراتي من أجل الإنسان والمعرفة والتنوير.. من أجل الحرية والعدالة والارتقاء..

 

ويقول صديقي:

"كم تمنيت أن أكون وحيداً كتمثالٍ هيليني يغطيه الرخام، وتتوالى عليه الزوابع والفصول، وألا تصبح عزلتي مخيفةً إلى هذا الحد.. كم تمنيت أن أكون كرمة في تلال بعيدة، نحلة في حقول تشع منها الحياة، أوزةً بيضاء تشق بصدرها مياه بحيرة في شهر أبريل.. كم تمنيت أن أكون مثل عاصفةً أطلسية، لوحةً لسلفادور دالي، قصةً لفرانز كافكا، شيئاً ما مجرداً لا تحتمله كثافة هذه العوالم الموغلة في التجسيد..

يقول كم تمنيت أن أكون بساطاً سحرياً يطوف بالعالم، سلماً كونياً يحملني هناك فوق قباب السماء، وكم تمنيت أن أسمو عالياً عالياً مثل ملاك سابحٍ في بحار الملكوت، وروحاً بريئةً تحط على قلوب الناس فتضيئها.."

وأنا كم أتمنى أن أكون راعيا لأغنام أعيش بين الجبال والسهول وعلى ضفاف البحيرات والأنهار بعيدا عن هذه الحياة وغموضها وتعقيداتها.. بعيدا عن السياسة وأكاذيبها.. بعيدا عن الكون والناس والحياة..

كم كنت أتمنى أن أكون راعيا كل عالمي هو العشب والمياه وأغنامي.. أشرب لبني وأناجي البحر والسماء والنجوم.. وأعزف قيثارتي مشاعر بريئة لا تعرف الحقد والظلم والكراهية.. وأعيش بعيدا عن الرأسمالية والفاشية.. بعيدا عن التضخم والعجز والاقتصاد الحر.. بعيدا عن الإقصاء والإرهاب والتكتل والتدويل..

 

كم أتمنى أن أكون مثل صديقتي من رجال المال والأعمال.. وأن أكون مثل صديقي تمثالاً ونحلة وكرمة وعاصفة أطلسية.. وأن أكون راعياً بين السهول والجبال.. وأن أكون أنا كما أنا...

(ألا ليت شعري ماذا يريد الإنسان؟)