إلى أين؟
(.. وجوه متوترة يصفدها
الزمن ..
محولة عن التحول بالتحول
..
مملوءة بالأوهام ..
والمعاني الخواء ..
يتضخم فيها ورم اللا
مبالاة .. والتركيز المفقود ..
والرياح الباردة تعصف
بالبشر والأوراق الجافة ..
تلك الرياح التي تهب قبل
الزمان وبعده ..)
يقال في الأدب العرفاني إن
(الموجودات كلمات) .. فالحجر قصة .. والشجر عبارة لأهل المعرفة الذين يجيدون أصول
القراءة ولكن ... عندما تتحول الأرض الطيبة بنيلها ونخيلها .. بشمسها .. في شروقها
وأصيلها إلى بقعة بور عاطلة عن الحياة .. وإلى كتاب أمِّي أصم ، عندها
تتساوي قراءة الأحياء
والجمادات وتصبح اللوحة غبراء شائهة كما وصفها ت.س. اليوت أعلاه . تلك هي
(المؤامرة الوطنية) التي يؤديها الأبناء بجدارة فيتحول الفرد البسيط إلى (لا
منتمي) يتحلل من كل الروابط المقدسة .. فيفقد انتماءه الأسري بالغياب القسري ..
ورباطه الاجتماعي بالغربة الذاتية .. وأذليته الوطنية بالهجرة النفسية فما دهانا
وإلى أين نمضي؟ الشكوى ليك يا ربنا ..
في لحظات العتمة وتداخل
الإجابة بالسؤال واختلاط الشك باليقين يمكن أن نطرح هذا التساؤل ببراءة ساذجة ..
ولكن عندما نعلم أننا في عصر علم الإدارة وسيكلوجيا الفرد وسوسيولجا المجتمع يصبح
الأمر أكثر إيلاماً وأقسى احتمالا .. لقد قطعت الأمم مشواراً طويلاً في مسار التاريخ
.. قامت بتأهيل الفرد نفساً وخلقاً ليكون صالحاً لنفسه ولمجتمعه بالتربية والتعليم
والحرية .. وأقرت النظام بالدساتير والديمقراطية .. وبنت جسور العلاقة بين الأفراد
بالثقة والاحترام والاعتراف المتبادل .. ليتحول الإنسان إلى استثمار وطني إنساني
.. ويتحول الوطن إلى أم رءوم تتعهد أبناءها بالحماية والرعاية .
يقول الدكتور هاشم صالح في
رحلته التنويرية العظيمة إن الأمم تموت إذا
إن الإنسان ليصاب بفصام
عقلي وعاهة فكرية ويصبح أخرساً وأبكماً عندما يعود في هذه اللحظة من التاريخ
المتقدم ليرى وطنه بلداً يعيش في عصور ما قبل الميلاد .. يعاني من الملاريا
والدسنتاريا .. يعلو الغبار أركانه .. يبحث إنسانه عن الرغيف والكينين .. ينزوي
طلباً للأمان .. وتتضاءل كرامته فيفقد الستر واليقين .. وأكثر من ذلك تجد أناساً
يرقصون طرباً ولا يعلمون أنهم يؤدون رقصة الموت الأخيرة على موال حزين ..
إن من يحب ربه ودينه ينبغي
أن يحب وطنه .. ومن يحب وطنه يجب أن يحب مواطنيه .. ولتكن إنساناً عليك أن تعرف
معنى الإنسانية .. فلا خير في نعيم يتمدد حولك ويقف دون آخريك .. إذ لا معنى ولا
طعم لثيابك الفاخرة وحولك العراة .. ولا فائدة لسيارتك الفارهة وجوارك الحفاة ..
ولا حتى للعافية إذا كان من معك يفتقد ثمن الدواء . تلك قيم صارت أساطير تحكى
كالخل الوفي والغول والعنقاء .. هكذا سادت عندنا (فلسفة القوة) وصار (الإنسان
الأعلى) هو القوي .. الجبار .. الظالم .. السيد .. وصار جل الشعب أرقاء وأسرى
للحاجة يتكففون عاديات القدر والمصير ..
كلنا في هذا العقوق سواء
وعلى هذه الخيانة ملامون .. وما هذا الكتاب إلا إقرار بالخيبة والعجز والفشل ..
ولكننا نكتب فقط لننسى .. ونصلى لنتذكر .. وندعو بحزن للذين لا يستطيعون الصلاة ..
من أين أتى هؤلاء؟
بالتأكيد لم يهبطوا من المريخ بل جاءوا من رحم هذا المجتمع .. من عمقه الفكري
ومخاضه الاجتماعي وعبر تاريخ طويل وتموجات لقيم صعدت وأخرى هبطت .. وكانت النتيجة
استجابة حقيقة لكيفما تكونوا يولى عليكم .. ولكن ما الذي يصنع الدكتاتورية؟ و ما
الذي يجعل الأيديولوجي أو الدكتاتور يعتقد أنه على صواب؟
في كتاب "ما وراء
الخير والشر" يقول نيتشه ( لا تفكر
في هل ما يقوله الفيلسوف صحيحاً أم خطأ ، ولكن أسأل كيف ظنَّ أنه صحيح) لأن ذلك
يجعلنا أقرب لمعرفة تاريخ الفكرة والمناخ الذي أفرزها والظلال التي كانت السبب في
تكوينها .. وبامتلاك ماضي الفكرة يمكن قراءة انعكاسها على الواقع وتأثيرها على
بناء المستقبل .. كما يساعد ذلك كله حتى في معرفة ما لم يفكر فيه صاحب الفكرة ..
في علم السياسة ونظريات
الاستبداد تعرَّف الأيديولجيا بأنها فكرة ذات اتجاه واحد ، مغرورة بذاتها ، تفترض
الصواب المطلق وهي في استغناء تام عن ما سواها وتتجاهل حتى هامش الخطأ الموجود في
النظريات العلمية .. من هنا تولد الدكتاتورية .. قطار يمضى بكبرياء أجوف في اتجاه
خاطئ .. ومن هنا تأتي أهمية المعارضة في النظم الديمقراطية كرقيب لضبط الآداء
الحكومي وشريك أساسي للتصحيح وتوسيع دائرة المشاركة ..
بعد حرب النكسة في 1967م
انطلقت الحركة الإسلامية بقوة نتيجة للإحباط الكبير الذي ساد بعد الهزيمة ولتقاعس
الحركات اليسارية وتفتت القومية
سئل الدكتور غازي صلاح
الدين في تلفزيون السودان عن تقييمه لمسار الحركة الإسلامية فأجاب بأنه إذا كان
هناك من بعث للحركة يجب أن يكون ذلك في إطار وطني .. نعم إن السيد غازي ينعي
المشروع الحضاري للحركة الإسلامية ولئن تأتي أخيراً خيراً من أن لا تأتي ..
نقول هذا الكلام ليقيننا
بأنه إذا فاتنا إدراك ما مضى .. فعلينا تدارك ما يأتي ..